فنتازيا الحلم وروح الفطرة في أعمال هادي كاظم
– مؤيد داود البصام
يصاحب الكثير التساؤل والدهشة عندما يسمعون كلمة فطري، أو الفطرية وهم يتلقون معلومة عن عمل فني او ادبي، وعندما نعرف انها تعني في عصرنا الحاضر التلقائية في الفعل غير المكتسب، يظل التساؤل يشكل علامة استفهام نظرا لاننا أمام أتساع عالم المعرفة المكتسبة وتطور الدراسة والبحث والتقصي المعرفي، فلم يعد للفطرية وجود بمعناها الذي تحمله قبل هذا، لان العالم أغلبه أكتشف وخضع لتطورات الاتصالات والمواصلات، فلم يعد الا بقع هنا وهناك من العالم، يمثل وجودا لانسان على فطرته التي خلق فيها دون توجيهها، وأذا عدنا إلى المعجم لتعريف الفطري سنجده يؤكد على أنه، (اسم منسوب إلى فِطْرة : ( الأحياء ) ما يخص طبيعة الكائن الحي ويصاحبه من نشأته ، غريزيّ ، طبيعيّ ، عكسه مكتسَب ” رد فعل / سلوك فِطريّ “. من يتصرَّف بتلقائيَّة دون خبرة ومعرفة ) ، وممكن أن تكون الجملة النهائية هي المدخل، (من يتصرَّف بتلقائيَّة دون خبرة ومعرفة )، واخذت في العصر الحاضر بعدا آخر يتقارب في التعريف ويبتعد في المعنى، هو حرية التعبير والخروج من شرنقة ما تفرضه المدارس والمناهج على الإنسان وبالذات المدارس الغربية، ولكن الايام تظهر لنا بين فترة وأخرى أعمالا فطرية، لمبدعين هنا وهناك في العالم، ظهر أغلبهم في مدن العالم الثالث، عوضا عن أفريقيا وامريكا الجنوبية اللتان تزخران بالفنون الفطرية، فنانون فطريون قدموا اعمالا استطاعت أن تحدث تأثيرها المباشر على حركة الفن والثقافة العالمية منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ولعل ما حدث مع الفنان بيكاسو والفنانة الفطرية الجزائرية فاطمة حداد التي اشتهرت باسم ، ( باية محي الدين ) التي تعرف إليها الفنان العالمي بيكاسو وأعجب بموهبتها، ” فتعاونا في إنجاز عدة تحف جميلة، وهناك أبدعت لوحات السيراميك التي سبح فيها خيالها بعيدا، فأنتج أشكالا مثيرة وحيوانات غريبة وجميلة تنم عن مدى سعة خيال هذه الفنانة ، من كان يصدق أن تلك الفتاة الخجولة المنطوية على الذات، ستغدو صاحبة طريقة فريدة في الرسم، ويشيد بها أشهر الشعراء والفنانين العالميين من طراز الشاعر السريالي أندريه بيرتون والأديب الرمزي كاتب يسين، وتتعاون في إنجاز لوحات مع الفنان العالمي بابلو بيكاسو، ولعل عفويتها وبساطتها هي سلاحها في معركة الفن، وصدقها في التعبير عن إحساسها هو مطيتها لبلوغ قمة المجد الفني، الذي استلهمته من الحكايات التي كانت ترويها لها جدتها في ليالي الشتاء الطويلة الباردة.” هبة الرحمان / صحيفة الجزائر الجديدة / 5 آب 2011، وليست قصة باية من القصص الفريدة مما قدم من اعمال الفنانين الفطريين، فهناك الكثير من القصص التي ظهرت في بداية ومنتصف القرن العشرين في البلاد العربية، ولعل الفنان العراقي الفطري ( منعم فرات )وآخرون من هؤلاء الفطريين جزء من استمرار وجود الفن الفطري حتى في المدن التي تجاوزت بدائيتها، والفنان هادي كاظم، فنان فطري ظهر في سكون وبدون افتعال، وأستطاع أن يكسب أعجاب الذين شاهدوا أعماله التلقائية والنابعة من احساس عفوي، وبساطة في التعبير، مع ما تحمله من التعبير الذاتي لما اكتسبه من الحكايات والقصص الشعبية، في طفولته والتي ظلت راسخة في ذهنه، أعمال نحتية من الخشب الذي كان يتعامل معه في ورشة النجارة التابعة لكلية الفنون الجميلة في بغداد، لبناء ديكورات المسرحيات، ومن ثم لقائه بالفنان فاضل خليل الذي أدرك عمق أحساس هادي كاظم ورؤاه الفنية، وهو يشتغل معه في أنجاز ديكورات ألاعمال المسرحية، راح ينمي هذه المقدرة بالاعجاب والتشجيع والطلب باستمرار الانتاج، وشكلت هذه اللحظات من اللقاءات مع ترنيمات الفنان صلاح القصب الفنتازية التي كان يبديها كلما راى عملا لهادي كاظم، مما شحذ همته بما تلقاه من تشجيع من الاخرين، وما كان يبديانه الفنانين فاضل خليل وصلاح القصب وهما يريناه يبدع بعفويته وفطريته وبساطته هذه الاشكال الخارجة عن المألوف، وسط الموج الصاخب لكلية الفنون باقسامها المتعددة واساتذتها وطلبتها، ونقاشاتهم عن المدارس والاساليب، استحوذت أفكار المسرح وحركة الشخصيات على كيان هادي كاظم، الذي كان يجد في هذه الحركات واللغة التي ينطقها الفنانون المسرحيون أثناء البروفة امامه وهو يهئ ديكور المسرحية، أو عندما يبدأ العرض المسرحي الحافز لما يتقافز في داخله ويشغل ذهنه، فراح يصوغ هذه الحلمية السوريالية لشخوصه، بالمادة التي تعايش معها منذ الطفولة، الخشب الذي يتعامل معه لصنع بيوت وحارات مسرحيات الفنانين وهم يقدمون أعمالهم على خشبة المسرح، واختار خشب الاشجار لالتصاقه الحميمي بالخشب وبروح وبعد الشجرة التي تجاوره في حياته، أن الاعمال النحتية التي صاغها تحمل طزوجة أفكارها ونقاء الاسلوب الذي يرسم ملامحه، وتغيير نمط التعبير من الشكل التقليدي، إلى البنائية التي تحمل الخيال الجامح لاشكال حلمية، تصورها احلام تنسج نصوصها روح التلقي التلقائي من المنابع الجوانية التي يتعامل بها بصفة الشخص وليس المجموع، انه يحاول من خلال هذه المنحنيات التي لا تلزمها قياسات محددة، وبالكتلة التي تجالس الفراغ من كل جوانبها، للحصول على توازنها من خلال الرؤية البصرية اليومية مندمجة مع عالمه واحلامه، قد تكون تماثيله لا تشبه واقعية وجودها ولكنها مستلة من واقعه المعاش الذي يتحول بفعل الاحداث وحياة الكدح إلى كوابيس وإحلام مرعبة، حتى تتحول في قبضته إلى رؤى جمالية عندما يستيقظ، أن القدرة التي يتمتع فيها هادي كاظم في خلق هذا العالم الفنتازي، بالكتلة التي تندمج لحظة اللقاء بين المرأة والرجل، وبين فراغاته التي تهيئ للكتلة هذه القيمة الجمالية، مع العلاقة المريحة بين العناصر للرؤية البصرية، فتتيح المجال للتأمل والدهشة، أكثر مما تثير الاستغراب، أن الكتلة في أعمال هادي كاظم رصينة وذات أبعاد فيها مدراكات أضفاء البعد الجمالي للحركة في منحنيات خطوطه، وتوازن الفراغ والكتلة.
لكن هذه الرؤية الفطرية في تفجير القيم الجمالية بقطعة الخشب، وترصين وجود الكتلة الذي ينم عن مهارة وتقنية رائعة، أستطاع أن يؤسس لنفسه طريقا في عالم الفن، أبدع فيه باعماله النحتية الخارجة عن المالوف، ولكنها تتعايش معنا حلميا، أن الرؤية التي يتمتع بها لاضفاء الحلم على اشكاله، فيها هذه الروح من الشفافية التي تجعل اعماله حميمية على الرغم من غرابتها في العلاقة بينها وبين المتلقي، ولكن ما يلاحظ في الاونة الاخيرة انحراف الفنان هادي كاظم في المعرض الذي أقامه في قاعة حوار للفنون أخيرا ( عام 2013 )، حيث زج باعمال نحتية مدروسة، مبنية على قواعد اكاديمية، فافقدها هذا الحس الجمالي الفطري الذي كانت تتمتع به أعماله السابقة، وساقها على الرغم منها إلى بنائية غريبة عن اصلها الذي نشات فيه، وكانه يعود مجددا من الصفر في البحث عن وجوده، أن منطلقاته الفكرية التي تحدث عنها إلى فهد الصكر في جريدة الصباح، ” الحرية هي سمة أعمالي النحتية ، وأعني لا قيود تفرض علي ولا أرتبط بمحددات تقنية معينة وهذا ما يميز عملي الفني عن الآخرين، لذا أتعامل مع عملي الفني بحرية مطلقة، مبتعداً عن مدارس النحت المعروفة ومتحرراً منها، معتمداً في عملي على صدفة اللحظة وفطريتها والأحلام التي تنبع من الروح ، والتي تساعدني على تحرير أفكاري من كهوف الذاكرة.” ، هذه العلاقة بين الذات وبين فطرية الشكل والنص، وما تحدث به عن الحرية، او ما سمي بالتلقائية والعفوية والبساطة، المنطلقة من الذات من دون قيود أو تكبيل، لم يلتزم بها فخرق هذه التلقائية التي كانت تحكم أعماله وتجسد روح الحرية التي يتعامل بها فكرا وتقنية كما تحدث في السابق، هذا البهاء الذي كان ينقله لنا عبر تهويمات حلمية، فيها الدهشة والمثيرة للتأمل، أن روحية أعمال هادي كاظم السابقة لهذا المعرض، فيها هذا الطيف الذي لايعلن عن نفسه ويظل يلاحقنا، وكانه ملتصق بنا، مخلوقات فضائية أو عالم فنتازي غريب، لكننا متجانسين معها، أن الفطرية والتلقائية، غير الاعمال التي اكتسبت قواعد العمل الفني، وبنيت من خلال المعرفة والتقنية المكتسبة، أهم ما يميز الاعمال الفطرية، هو هذه الحرية التي تبدع لنفسها، وتملك حريتها .