كتب مؤيد البصام
أقام أثنا عشر فنانا ً معرضا تحت اسم ( تجمع فنانو العراق )ً، في قاعة حوار للفنون منطقة الوزيرية من بغداد، بعنوان ( وجه آخر من البلاد ).العنوان يضع مفارقة جميلة، انه يتحدث اللغة المعاكسة للغة الشارع السائدة، ففي الوقت الذي يدمر وينتهك الجمال في معظم شؤون الحياة، وعلى رأسه الإنسان، ينبري مجموعة من الفنانين ليقولوا ( نحن صناع الجمال والوجه الآخر لمن يسعى لتدمير البلاد والعباد، ونقارع صناعة القبح والخراب التي تزاول يوميا في بلادنا، بالفرشاة واللوحة واللون، بالبهاء وعالم الجمال)، مجموعة من الرسامين والنحاتين، وغاب الخزف في تجمعهم، بمراحل عمرية متقاربة، أكبرهم عمرا ً الفنان رضا فرحان ويليه الفنان نجم القيسي، إما البقية فهم من الشباب المتقارب الأعمار والظهور في حركة التشكيل العراقي، قدم الفنان رضا فرحان إعماله التي تحاكي معاناة الإنسان في واقعه المرير، بقطع من البرونز، اشتغل على إبراز ما يحاكيه الرأس الذي يمثل العصب الرئيسي في محنة الإنسان بمواجهة الواقع، واتخذ من أوضاع الرأس المتعددة الوجوه والحالات، إحالة للرؤية البصرية للمشاركة في الاستفزاز، أن لم نكن قادرين على تغيير المسار فما فائدة الرأس على الجسد؟ ولمن يعود الرأس للخير أم للشر ؟ من خلال هذه الرؤية تحركت اشتغال الفنان رضا، بكتلة الرأس وتحويراتها، مع استخدام الفضاء كجزء موازي للكتلة التي منحها في كل إعماله القوة على إبراز النص، والاستعانة بالفضاء لاحتواء عالمه الخاص غير المحدود بفكرة معينة فقط، ضمن صياغات فكرية مشحونة بتعبيرية صارخة، بالإشكال التي يضعها مع الكتلة الرئيسية أو في التدمير الممنهج الذي يستخدمه للفكر، مع بعض الإضافات الجمالية أحيانا ً، أن كان في الإطار أو في وضع بعض الإشارات للدلالة على معنى معين، كما في الجرس تعبيرا عن الزمن الضائع في عمله المعروض، مع التأكيد على سكونية الحركة العامة للشكل، ليتيح حرية التأمل، ويعطي الرمز قيمة في تعبيرية متوازية بين الشكل والنص. وهو نفس المسعى الذي مثلته أعمال الفنان نجم القيسي، وان اختلفا في الأسلوب ولكنه في ذات المنحى النصي، في أعماله النحتية في معالجة محنة الإنسان الداخلية مع الواقع، ولكنه فعلها ضمن رؤية فنتازية، بجلب البايسكل كأداة تعيد التوازن المفقود، ولكن الحياة لم تترك للعبة إن تستمر إلا ضمن رؤية السلطة والتخلف وفرضياتهما القسرية على الواقع. وجعل التشخيص لدور المحرك للعبة والمتحرك ضمنها، فقد أوقف الزمن بان جعل العجلة بدون الدوران، تأخذ شكل المربع لإعاقة عملية الحركة وإيقاف الزمن، بينما ظل الإنسان، يتحرك ضمن فضاءه، معبرا بذلك عن حالة الاستمرارية للارتقاء وتنفيذ طموحه، على الرغم من إيقاف عجلة الزمن والتطور..وحتى في عمله لشخص يعتلي قمة صخرة ويجلس عليها، هناك استسلامية، ولكن فيها تأمل وبحث عن شئ مجهول، من الأعلى للأسفل.
إعمال الرسم …..
اختلفت النصوص للرسامين العشرة الآخرين وتجانست الأساليب الحديثة في التقنية التي استخدموها ، على الرغم من حداثة الأساليب إلا إن الفنانين ، حليم قاسم وعطاء مقداد ونبيل علي ووضاح مهدي، لم يتخلوا عن وجود التشخيص في لوحاتهم، وان كان بأساليب مختلفة من التصريح، فحليم الذي استخدم التشويه لإشكال التشخيص لإبراز شراسة السلطة، بألوان معتمة، لتحقيق وحدة الشكل والنص، بينما اشتغلت الفنانة عطاء مقداد على تشكيل لوحة للطفولة وأفراحها، باسم (مرح) وكأنها تعيد تقييم الواقع بالارتداد إلى الماضي، فجاء تكوينها بالألوان البراقة، وسيطرة في واقعية مبتعدة عن التشريح الأكاديمي، ولكنها استطاعت أن توازن بين الشكل والنص بضبط إيقاع الإنشاء للوحة، وحركتها للأشخاص. أما نبيل علي الذي شوه النص، المتمثل بعازف (آلة كمان)، ووضعه ضمن ألوان الحزن ، الرمادي والأسود، أنها سياقات الواقع الذي فرض وجودا قاتما على مجمل الحياة حتى وان ما رسمنا المرح المخنوق، وابرز في تحليل العمل الإمكانية المبدعة على السيطرة على إنشاء ألوحة وتوازنها، مع سيطرة على تزاوج وخلط الألوان، في الوقت الذي استمر الفنان وضاح مهدي في استثمار قدرته على التحكم بفضاء الكتلة، وبتجريد تعبيري ربط بين الكتلة التي تمثل التشخيص في حالات الإحباط والفضاء الذي يلفه بلحظة ضياع، مع قدرة رائعة في تشييد اللون ليكون البديل الذي يحفظ توازن اللوحة. وتخرج الفنانة سهى ألجميلي عن خطها المعتاد في الحوار مع الطبيعة، لتعطينا بورترية ضمن أسلوبها في زج كم من الرموز والإشارات، في عمل بورترية ضاج بتصوراتها الشكلية للتطابق بين الشكل والنص، وتضع الفنانة ضحى الكاتب قدرتها في تشييد اللوحة بالمواد التي استخدمتها، (الخيش ) لتجسد بتعبيرية يختلط فيها ما بين التجريد والزخرفة، بأسلوب الحياكة والتطريز، وهو ما ينسجم ومدركات اللصق للتعبير عن الوجود الذي لا يملك الإدراك، الذي يؤهله لفهم أبعاد الحياة وثقل المأساة التي يعيشها إنساننا في الوقت الحاضر، وأحالت مواد لوحتها إلى عمل مفاهيمي يتطابق في الرؤية البصرية مع النص الذي تسعى لإيجاده من بين ركام الأشياء، وتستمر الفنانة نادية فليح في لوحتها لتعبر بها بالكولاج الذي تستخدمه حالة الرفض للقيم السائدة، والعالم الغارق في سوداويته، بتعبيرية تجريدية، كان للتضاد اللوني بين الأسود والأبيض القوة لتوضيح النص الذي اشتغلت عليه. ويبقى أنشاء اللوحة بعالمها التجريدي لدى الفنان زياد غازي في تعبيرية تضطج ألوانه وكأنها في حركة دائمة، بمحمول تمكنه من السيطرة على البناء العام والإنشاء، ملغيا الخطوط في تحديد مسار سيلان الألوان. بينما شكل اللون العمود الفقري للوحة عند الفنان سعد عبد زيد في الإنشاء اللوني الخالص للوحة. بتكييفه اللوحة ضمن أطار السطح الواحد لتداخلات الألوان ومزجها بمساحة واسعة، لتكييف الرؤية البصرية في رؤية القيم الجمالية للموضوعات، بمفهوم اللون هو الأساس. وظل الفنان محمد عباس منفردا في لوحته عن البناء العام للنص الذي اشتغل عليه بقية الفنانين، بالإنشاء القريب ما بين الانطباعية والسريالية ووحشية الألوان. وانزاح نحو الانطباعية بتقنية حداثوية في تعامله للنص واللون.
أما من حيث الفوارق بين اللون والنص للمجموعة، فالألوان المعتمة ظهرت في لوحات حليم قاسم، بينما تراوحت بين الألوان الزاهية التي اتسمت بها لوحة عطاء مقداد، وألوان زياد غازي ونبيل علي ومحمد عباس فاضل المتراوحة بين الزاهية والمعتمة، نحن نناقش اللون على ضوء النص لعنوان المعرض، لنرى هل تطابق التشييد مع المعنى الذي وضع لعنوان المعرض، لا شك أن أشتغالاتهم جميعا كانت تقترب كثيرا وتبتعد قليلا، عما أرادوا أن يفصحوا عنه، لكنهم يبقون في كل الأحوال قد قدموا أنفسهم كبديل على ما يحدث في الواقع، فان رؤية زياد غازي التجريدية التعبيرية، استمرت على نفس الخط وأن عالجها بالتجريد اللوني، وكما قال الفنان قاسم سبتي في فولدر المعرض. ” أن هذا النمط من المبدعين يصر وبالرغم من كل المصاعب على تنوير بصائرنا بأطروحات بصرية غاية في المعاصرة، المرتكزة على قدرات خلاقة ستعود بالتشكيل العراقي حتما للعودة إلى الريادة التي تبؤها العراق طيلة الماضيات من الأيام، مرحى لهم وهم يبدعون، مرحى لهم وهم يصرون على الرهان من أن هذه اللوحات المعلقة على الجدران تثبت من أن لا وطن بلا ثقافة وفن، ولا تشكيل بلا إبداع وجرأة. “.ومن هنا نقف على السؤال لمثل هذه المعارض الجماعية. هل كان هناك وحدة موضوع، نعم وحدة الموضوع كان في اجتماعهم على رفض العنف وتخريب الجمال، ودعوة لا براز قيم الجمال لنشر السلام. وقوة إبداعهم الذي صاغ النص، بأبهى أمكانية للوصول إلى عقل وعاطفة المتلقي، وتحديهم الذي صاغ بجرأة موضوعات كان يحشى من ظهورها في مجتمعنا الذي يعشش فيه التخلف، هو قوة وعيهم وإدراكهم لمعنى الإنسانية، ودورهم في بناء عالم السلام والحرية.