كتب : مؤيد داود البصام
يشتغل النحات المعاصر على معادلة تتيح له التواصل للبقاء على صلته بالطبيعة والواقع مع ما يمتلكه من حرية التعبير، ويحاول أن يبتعد عن الوقوع في المباشرة والاستنساخ، أذا كان ضمن ما طرحه فكر المحاكاة الأفلاطونية، أو ضمن مفاهيم الحافر يدق على الحافر، أو ما جاءت به أطروحات ما بعد الحداثة، وما وصلت له الاتصالات من تطورات، وضعت كم هائل من المعلومات والمعارف، والاطلاع على ما يحدث في العالم من أقصاه الى أدناه، مجرد دقائق لرؤية ما كان يصل لمعرفته أياما وأسابيع وأشهر، وعلى الرغم من ذلك من الصعب إن لا نجد التأثير والمؤثر، ومن هذا الموقف يسعى الفنان العراقي بالخصوص جاهدا لا يجاد الفرصة في محاولة لنفي بقاءه خارج إطار الحداثة، وبنفس الوقت إن لا يكون اطلاعه للاستنساخ، ويشكل هذا موقفا ملتزما يعمل جاهدا أن لا يخرقه، إذا كان في الدراسات النقدية الجادة، البعيدة عن الاخوانيات والمحاباة، أو الكتابات التي تمثل صيغ إنشائية لا تملك الرؤى النقدية، وينسحب هذا حتى كمتذوقين وفنانين، ويبقى فن النحت متفردا في قلة إنتاجه، والإعمال النحتية ليست بالسعة والكم كما هي إعمال الفن التشكيلي كالرسم وأنساقه الأخرى، فالنحت فعل جمالي مرتبط بالفضاء وهو كتلة وحجم ذات إبعاد سداسية، وهو ما يشكل نفس ظاهرة فن العمارة في وجودها ضمن الفضاء الذي يحيطها، إذ لابد للفنان إدراك الأبعاد الثلاث التي يمثلها تشكيل النحت بقدرته على ملئ الفراغ وإعطاء الفضاء بعده الجمالي، الذي يحيط العمل من جهاته الأربعة، وعدم الإحاطة بهذه الرؤية للمقاييس الجمالية، سيوقعه في إشكالية عدم التوازن، أن لم تكن أبعاده بالدقة الهندسية في بنائيتها وقدرة التكيف بالرؤيا للعلاقة بين العمل والفضاء، وهنا يأتي التكيف بان النحت عملية بناء في الدرجة الثانية بعد صياغته الجمالية، لدخول العديد من العناصر في استكمال التكوين، الفضاء والبيئة والأبعاد وتمثله بالجهات الأربعة والأبعاد الثلاثية المكونة باستثناء نحت الرليف، وقد دمجت الحداثة وما بعد الحداثة، العمارة والنحت في وضع واحد ضمن مبادئ البيئة والفضاء، كمنطلق متشابه في التكوين الحضري للمكان، وفي هذا الملخص محاولة لاستيعاب الإجابة على سؤال، هل استطاع النحات طه وهيب عبر معارضه الشخصية والمشتركة ؟ منذ أن عرض في قاعة الميزان ( عوالم مصغرة )، عام 1998، أن يحقق المتطلبات التي تجعل عالمه يحمل السمات الحداثوية ولا يتخلى عن النبع الذي تغذى منه، أو أن لا يعيد ويكرر الموروث أو ما سبق ان قدمه فنان بلاد الرافدين، أو ضمن حلقة الفن العالمي والمحلي، وأن يكون التكيف في هضم الموروث والنتاج الفني بامتداده التاريخي، وليس الاستنساخ، وهي مسألة لا يمكن تجاوزها، فمهما أخفى المبدع القناع فلا يمكن إلا أن يكشف عن العاطفة في البعد الجمالي الذي يحاول أن يثبت موقعه فيه، كرؤية وثقافة وبيئة ومحمولات اجتماعية واقتصادية، وتتم محاولات طه وهيب في الرؤيا مع الطبيعة التي تشكل تكوينه كبيئة ومجتمع رافقاه سنين النمو وما وصل له في النهاية كواقع يتعايش معه، ومجموعة عناصر الرؤية البصرية التي حددت بعض السمات في إعماله من تمثلها الفكري ورؤاه الذاتية، منذ أن أدرك انه قادر على صياغة الواقع برؤى جمالية، تكشف المستور الذي لم ير الآخر هذه القيمة، وفي كيفية النظر الى الموروثات العراقية أولا ً والبغدادية ثانيا، التي وضعت بصمات تأثيرها بالوعي أو بغيابه على الطفل أو الشاب طه وهيب وهو يقلب ناظريه في المكان الذي ولد فيه من حارات بغداد القديمة، أو عندما وعى وجوده لرؤية فنون فنان بلاد ما بين النهرين وروعة إبداعه، هذا الاستبطان الجواني للخزين البصري الطفولي في الرؤية اليومية لممارسات الحياة، التي كانت تتحرك إمامه بتلقائية دون أن يعي مدركاتها المعرفية والجمالية، ولكنها ألان بعد النضج أصبحت أبعاد جمالية تتكشف له عن قيم جمالية كلما أمعن النظر أو التفكير فيها، هذا الوعي جر لما نسميه مرحلة التقاط ما هو خارج المألوف واللا مرئي للكشف عن تلك القيم الجمالية التي لم يع الإنسان مفرداتها الجمالية الأ من خلال الوعي والمعرفة التي أكتسبها آنفا ً، وهي التي حركت الخزين عند الفنان طه وهيب للظهور عندما بدا السؤال، ما هو السبب في الوله الذي يتلبس آبائنا وأمهاتنا وينسحب علينا في حب ( الأهلة والنذور والأدعية ) ؟، وهذا التمسك بالزيارات للأولياء وأهل البيت، هل هي نفس الصيغة التي قرأنا عنها عن المسيحيين الأوائل الذين جاؤا للموت دون وعي على أعتاب بيت المقدس، وغطى الفنان الأوروبي الأديرة والكنائس وأماكن العبادة بكل ما استطاعت يداه أن تخط على ورق أو جدار أو لوح خشب أو صخرة نحتها، ما يمجد المؤمنين الأوائل والسيد المسيح (عليه السلام)، وهي الآن تتوارث عندهم بالشغف الذي يحيط الإنسان الأوروبي في التجوال والسياحة لرؤية المزارات والقبور والآثار، والوقوف إمامها باندهاش ووله، هذا الوجد تجاه أشياء قد تبدو لنا بعض الأحيان مضحكة، وهو ما يعطي العلامات في الفروق الحضارية بيننا وبين الإنسان الغربي المتحضر، فهو ينتبه لأشياء عندنا، ونغفل نحن أصحاب هذا الموروث عن أدراك الذي أثاره وأدهشه، وأيضا يتبادر السؤال، أم إننا أدركنا سحر دجلة والفرات وما أبدعاه على مر العصور من فن خالد هو الذي جرنا للتواصل في اكتشاف ما للموروث من أهمية وسحر ودهشة ؟، كل هذه الأسئلة تحرك يد الفنان طه وهيب لاختزال الحركة وتقريب المسافات بين الشكل الآن وبين الإشكال السومرية ومعطيات فن المصغرات،(كأشكال بمصغراتها أو بحجومها المختلفة ).
الفضاء والمركز الأرتكازي …
منحوتات الفنان طه وهيب، أشكال كأنها خرجت الآن من قبورها لملاقاة الحياة، لهذا فحركتها مزيج من الفرح والرقص الصوفي المولوي، أنها تستعرض وجودها بحركتها، الكتلة ترشق من الأعلى وتؤكد وجودها كقاعدة، وعندما يلجأ لتضخيم الكتلة من اعلي، فانه يرشق الأجزاء الواضحة ليخفي التضخم عبر حركة غير مرئية البعد على السطح من الجوانب. أن المتطلع لإعمال النحات طه وهيب سيجد أن معظم أعماله إن لم تكن كلها تتسم بالحركة، حتى منحوتة الشجرة، ( نصب البذرة )، في ساحة النهضة وسط مدينة بغداد، فهي في حركة مزهوة بفضائها، وهذا النمو الذي تحده القاعدة المدورة التي تحيط الأغصان، لم تتمكن من سرقة الحركة التي تتسم بها، أنها إعمال لا تتوقف حركتها في الرؤية البصرية، مندهشة بوجودها وكأنها على عجل من لحظة خروجها من قبوها تستعجل الرحيل ولا تطيق البقاء، والكتلة تشعر بخفتها بالرغم من بعض الأعمال التي صاغ قاعدتها ككتلة واضحة الحجم، وهو ما يظهر محاولته في تأكيد قدم منحوتاته كونها امتداد لما أبدعه الفنان السومري والبابلي، وسيمثل اللون الذي يترسب على أجزاء من سطح العمل ( التعتيق) ، اللون الرمادي المخضر الذي يشبه ( العفن )، علامة قدم المادة ، في محاولة لأن يوصل فكرة التواصل، بقراءة التراث من خلال نظرة معاصرة، فهو يسعى لإعادة صياغة البعد الرمزي للأسطورة ضمن أطرها الجمالية، التي يوظفها بمفاهيمه الذاتية ورؤاه، التي تتحكم بها كل ما حمله في داخله كتجربة ومعرفة أو رؤية بصرية، ونزوع الفنان طه وهيب نحو تأكيد الحركة حتى لو كانت بسيطة، لأنه يشتغل على فكرة الدفق التعبيري، بما يحمله من عفوية وعاطفة، مع الانطباع الذي يخلفه بعض الأحيان كونه فنا ً ملتزما ً ومأزوما ً، وهو ما نراه في تصوير الانفعال الذاتي، بين الكتلة وبين أنساق التكوينات في انسيابية الخطوط، فهو يسقط ذاته على الطبيعة والأشياء وعلى الإحداث، ويتحرك ضمن منظور العمل ليحيطه بإبعاده من كل الجوانب، وكأنه جزء من هذه الحركة التي يعتقد أنه أخترعها، ولكنها تبقى ضمن المؤثرات لتمثيل العجلة البابلية بلا وعيه، هذا التواصل في اللاوعي هو الذي يحرك مفردات الفنان طه وهيب نحو أبداع متفرد. وهذا ما نجده في مجموع التخطيط الذي واكب إعماله النحتية.