كتب : مؤيد البصام
الذي يتابع أعمال النحات نجم القيسي، يرى الفرق الشاسع بين البدايات وبين آخر أعماله النحتية، ففي الوقت الذي كنا نرى الطابع ألاستنساخي من تجارب الآخرين مطبوع على أعماله المبكرة، مثالا تمثال (مريم)، والتي نجد أننا إمام بلزاك وعباءته للنحات رودان بدون بلزاك، وهو ما سنجده في أعمال أخرى لها نفس سمات النقل من روح التعبير التي يحملها الأصل، ولكن هل هذه التجربة ؟ التي تؤشر أولا وآخرا ً على البدايات الأولى لكثير من الفنانين في العالم الذين تأثروا بإعمال الفنانين الكبار أو إعجابهم بعمل ما يجعلهم من شدة الوله يكرروه، أخذت بعدها المتتالي في أعمال نجم؟ وهو ما يجعلنا نرى ما قدمه في السنين الأخيرة إذ يظهر الوجه الآخر في تخطيه التبعية إلى التفرد، فهو يدرك الخطأ الذي يشخص في مثل هذه الممارسة، إذ ما أستمر الفنان في النقل والاستنساخ بدون أن يطور ملكاته مرتاحا لكسل ذهنه، عند ذاك تصبح المسألة سرقة لإبداعات الآخرين واستغفالاً للمشاهدين وتوقف عن النمو والتطور، ولكن النحات نجم القيسي، يبدأ في التخلص مبكرا ً من المؤثرات لإيجاد ذاته المنبثقة من أدواته المعرفية والتجريبية، وهي الحصانة الرئيسية لتطور الفنان وعلوه، وهذا ما نجده في إعماله الأخيرة، فقد تحركت العجلة الفكرية المتنامية في ذهنه نحو التحول من اللا فكرة لمجرد عمل نحتي إلى فكرة تأخذ مساحة لكي تكون أعمالا ً تبني لنفسها وجودا ً في مجال الرؤية البصرية، وهذا ما نجده في تحركه نحو فهم الكتلة والفضاء بالبعدين الجمالي والتقني، ففي الوقت الذي كانت إعماله الأولى تخلوا من معاينة جمالية الاختلاف بين الكتلة والفراغ وأهمية البعد الرئوي في الإنتاج لرؤية الفضاء بما يحدثه في الرؤية البصرية للكتلة، أخذت إعماله المتأخرة تركز على أهمية المنطلقات الفكرية واستخلاص القيم المحركة للكتلة والفراغ في المعاينة البصرية لإظهار القيم الجمال فيهما، مع أدراك لقيمة الحركة الموسيقية لإيضاح الجمالية التعبيرية التي أتسمت بها منحوتاته، وذلك من خلال تفتيت الرؤية البصرية عن مركزيتها بهذه التسطيحات الحادة التي أشتغل عليها على سطح الكتلة، حتى باتت الرؤية للكتلة تحمل هذا الفضاء الواسع بما أوجده من بؤر متعددة للسطح، فيها روح الاندفاع والتمرد على كينونتها.
أن النحات نجم القيسي يملك بعداً رؤوياً تجاه نصية العمل، فهو لا يتقيد بالفكرة الابتدائية بصورتها الأكاديمية، أنما يتحرك نحو أبعاد فيها تقنية بصياغات نصية، والإبقاء على ما اكتسبه من مران وخبرة أكاديمية تعطينا ملامح هذه القدرة على ابتكار الأفكار وتحويرها وإيجاد البدائل لإظهار القيم الجمالية في عمله، وعلى الرغم من أنه يجرد إلا أنه لا يوغل في تجريداته، ويبقي العلاقة متواصلة بين الواقعية والفكرة المجردة، بعيدا عن صياغة الشكل، وهذا ما يمنح هذه التجريديات قيم تعبيرية مؤثرة لكشف النص، خصوصا ً أذا عرفنا أن التعبيرية التجريدية، هي الامتداد الطبيعي للسريالية، وهو يلتقط هذه الإيماءات من البعد السريالي ولكنه أيضا ً لا يشتغل حسب الروح السريالية، لهذا نجد أن التشخيصية لديه لا تلتزم بقواعد القياس للجسم البشري، هو يحاور السريالية ولكنه يلجأ إلى التعبيرية التجريدية لأنها تتيح له مجالا واسعا في بث خطابه، أشتغالاته الأخيرة فيها نجد أن الكتلة أخذت أبعادها في الفضاء بحرية وان كانت بما يشبه السكونية، لكن حركتها البسيطة المموسقة هي التي أعطت المعادل الموضوعي بينها وبين الفراغ الذي لا وجود له في الحقيقة في الكتلة الكاملة السطح، والتي توحي من النظرة الأولى أنها تطغي على الفضاء المحيط، ولكن فهمه للإبعاد مكنه من إعطاء الموازنة في الحركة الأنفة الذكر، واستطاع أن يخلق فراغا ً وهميا ً للرؤية البصرية، وهو ما جعله ناجحا ً في إعمال النصب التي نفذها أو التي صممها ولم تنفذ، ويتحرك بإمكانية المعطيات الفكرية التي يصوغ بها خطابه، ونجد هذا التحكم في الإبعاد لملئ الفراغ، وهي نفس الاشتغالات التي قدمها على أعماله البرونزية، التي تلاحق مأساة الإنسان الوجودية، أنه يتبع فلسفة جياكومتي في المسؤولية تجاه الحقيقة، وليس الحقيقة بحد ذاتها، وهو ما يجعله أن يعطي لتشكل القاعدة جزء مكمل من العمل، أو الجزء المهم من الرؤية البصرية، في محاولة لإعطاء بعد تكاملي بين الفضاء والتشخيص ( figure)، وبالإبعاد الفكرية التي يشتغل عليها للامساك بما يراه بين الثبات والاهتزاز، فإذا أختل توازن النظام انفلتت الأجزاء وحدثت الفوضى، أنه ينقل حالة الفوضى التي يعيشها الإنسان العراقي في زمن الاحتلال، الزمن الذي فقدت به الكثير من المقاييس ليحل بديلا لها الوهم، فيختفي الرأس وتبقى الفكرة هي التي تتحكم في الحركة التي فقدت قيادتها وتبحث عن وجودها في الفراغ والتيه.
الأبعاد الرؤية لحركة الكتلة…
الأعمال النحتية الأخيرة لنجم القيسي، فيها هذا التطور بين الفكرة وبين الخطاب الذي يشتغل عليه، بتقنية يدفع بها نحو تركيز التعبيرية للإشكال بين واقعيتها والفنطازيا التي تغلفها، أن الأعمال لهذه الأنساق التي يمنحها العلو والارتفاع بالحركة الانسيابية التي توازي السكون، هي ما يحاول أن يعطيه البعد المتحرر من القيد على الرغم من وجود القيود التي تكبله، ولكنها تحقق الثبات وتخلق البؤرة التي شتتها الإبعاد اللا واقعية للشكل، على الرغم من إننا نجد هناك خلط في الفكرة، بين البحث بمشكلة الحقيقة، وبين الاستعارات الرؤية، كما في منحوتة ( الأرجل الأربعة)، فهي استعارة رؤية، في حين تبقى بقية الإعمال ذوات التشخيص، هن أجزاء من المسؤولية عن الحقيقة التي يتركز خطابه الأخير عليها وليس مشكلة الحقيقة، وهذه الموائمة الفكرية بين المسؤولية عن الحقيقة ومشكلة الحقيقة، تتطلب منه حسما ً فكريا ً، من أجل تشكيل صيغة فلسفية غير متناقضة لإعماله، أن الفنان عندما يتخطى حاجز التبعية يجب أن يملك قضية، مهما تكن وتكون محاورته ضمن رؤيته للقضية التي يؤمن بها وتشكل الجهد الفكري الذي تنبثق من خلالها الأفكار والرؤى العظيمة، ولاشك أن الفنان نجم القيسي يحاور قضية الإنسان وعالمه المأساوي، ولكن ما زالت البنائية الفكرية لم تأخذ إبعادها لتشكل وحدة الموضوع في مجمل أعماله، التي قدم فيها الكثير في الفترة الأخيرة، وتبقى إسقاطاته تصب في نفس النهج وان خرج بعض الشيء عن المسار، لكن المهم يجب أن يكون هذا الخروج ضمن وضوح الرؤية في التعاطي مع النص، وليس مجرد صانع خارج أطار الرؤيا الفكرية والشكل في الرؤية البصرية هو الأساس، فالفن العظيم هو الفن الذي يحمل قضية.
ولكننا نقف في ما قدمه في الآونة الأخيرة أو السنين ما بعد 2014 في المعارض المشتركة، هذه النقلة النوعية في البناء الفكري والإنشاء في إعماله، في معالجة محنة الإنسان الداخلية مع الواقع، ولكنه فعلها ضمن رؤية فنتازية، بجلب البايسكل كأداة تعيد التوازن المفقود، ولكن الحياة لم تترك للعبة إن تستمر إلا ضمن رؤية السلطة والتخلف وفرضياتهما القسرية على الواقع. وجعل التشخيص لدور المحرك للعبة والمتحرك ضمنها، فقد أوقف الزمن بان جعل العجلة بدون الدوران، تأخذ شكل المربع لإعاقة عملية الحركة وإيقاف الزمن، بينما ظل الإنسان، يتحرك ضمن فضاءه، معبرا بذلك عن حالة الاستمرارية للارتقاء وتنفيذ طموحه، على الرغم من إيقاف عجلة الزمن والتطور..وحتى في عمله لشخص يعتلي قمة صخرة ويجلس عليها، هناك استسلامية، ولكن فيها تأمل وبحث عن شئ مجهول، من الأعلى للأسفل. أن أعمال نجم النحتية الأخيرة تعطينا هذا التلاحم بين النص والشكل.