بقلم : عادل كامل
[1] الافتراضي مستحدثا ً ـ دينامية التواصل
باستثناء تجارب خزفية متطرفة، أكثر انسياقا ً للعشوائية أو تلبية للمظاهر المتأزمة، الآنية، فان إعادة قراءة فلسفات الحداثة ـ وما بعدها ـ في الإبداع العالمي ـ الأوربي تحديدا ً ـ لا تلخص مدى حفرها في الطبقات المندثرة للحضارات القديمة حسب، بل تأكيدها على ضرب من الشك بكل ما ينتمي إلى المستقبل.
ومع أن (نغمة) التشاؤم، والأسى، والإحساس المرير الذي تركه (سيزيف)، ومظاهر العبث، والعنف، واتساع الفجوات بين النخب الثقافية والمتلقي العام … الخ، كان لها حضورها الدائم في الثقافات، إلا أن ردود الفعل، لم تكن تعمل إلا على قهر عوامل: القهر. وكأن قانون: كل ما عليها زائل، وما يأتي من المجهول يذهب ابعد منه، لا يمثل الحياة، بل إغواء ً لصياغة برامج تدعم الديمومة، بدل القنوط، واستساغة الاحتماء بالغاز القدر، ميتافيزيقاه، وما يتضمنه من انساق تعمل خارج إمكانيات (الدماغ) والعقل.
وإذا كنت أتحدث عن فن (الخزف)، وليس عن (الجسد) أو (الوعي) أو (الثقافة)، فان أقدم النماذج كانت قد تأسست وفق مبدأ استحالة فصل الوظائف العملية عن العوامل التي تضافرت على تشكيلها، كعلامة، فان الخزف ـ مع المجسمات والرسومات ـ كان يتضمن مجالا ً سحريا ً/ رمزيا ً سمح للنخب أن تمنح (النوع البشري اختلافا ً عن الأنواع الأخرى، وعن نوعه أيضا ً، مسافة في التأويل، والتحكم، والغايات. فامتياز الأصابع لم يكن متخصصا ً بالبحث عن القوت، والدفاع عن النفس، بل عن بلورة قدرات أعلى في صياغة الأهداف، والمثل.
وإذا كانت (الغريزة) لاواعية في أداء عملها، فإنها سرعان ما ستعمل باستقلالية تسمح لها أن تطور مهارات ينفرد بها عدد من البشر تذهب ابعد من جمع القوت، والحماية، أو حتى العدوان، نحو مبررات معقولة لبناء دلالات، لا علاقة لها بالنافع، لكن من الصعب القول إنها: جمالية خالصة.
ثمة ـ في هذا النظام المعقد للتخصص في آليات الحفاظ على ديمومة كل ما كان يراه يزول، يغيب، انشغالا ً أنتجه العقل، ببناء العالم الافتراضي، لعدد من الرموز، والتصورات، تؤكد أن التشبث بالديمومة يتجاوز اللا وعي، نحو ديمومة تستدعي التنقيب في طاقاتها الكامنة، تجعل منها، بالدرجة الأولى، معادلا ً للموت ـ والاندثار.
انه مثال لقاعدة عامة، ولكن الأدوار الحضارية التي نشأت في بلاد وادي الرافدين، تمثل نموذجا ً يستدعي قراءة أن رواد (الفن) الأوائل، كانوا على معرفة فلسفية ـ وتقنية ـ سمحت لهم بقراءة متقدمة لأكثر العناصر صلة بهذا القانون: العناصر الأساسية: الهواء/التراب/ الماء/ والنار، ولكنهم، بعد تحليل ـ وربما تفكيك ـ هذه العناصر، والعثور على علاقات تجعل من عملها موحدا ً، لابد أن برز: العدم ـ الكامن في الزمن ـ قهرا ً يتطلب قهره اختراع تمويهات حقيقية، بالأحرى: حقائق اصلب من أن تتعرض للتقويض.
والسؤال الذي لم تجب عنه الفنون، ولم يجب عنه الفنان، بوصفه غدا أكثر رهافة، هل كان العالم الافتراضي قائما ً في القانون، وفي الخامات، أم كان قد تم استحداثه، مع نشوء القشرة العليا للدماغ، بوظيفتها المبكرة في: إعادة إجراء حساب لعمل الوعي، إزاء القهر ـ والتدمير؟ أي التفكير في ماهية التفكير، وهل ثمة وسائل لا تجعل منه لغزا ً عصيا ً على الإدراك..، أم أن الوعي، بما هو عليه، لم يستحدث أدواته من العدم، ولكن العلل، والأسباب المولدة للأسباب، كامنة في انساق البرنامج، وان مهمة (الصانع/الفنان) الأمهر تكمن في تلمس الطريق للاكتشاف، وليس الوقوف عاجزا ً، أو تائها ً في متاهة ما انفكت تطور وسائل الصراع ـ والمتناقضات ـ ما بين الحدود…؟
إن ما تم اكتشافه من جرار، دمى، أواني، ونماذج خزفية مختلفة الوظائف، في حضارات العراق، لا تشكل إلا نسبة لكنوز أخرى مازالت بانتظار التنقيب، والاكتشاف. إلا أنها نسبة تفصح عن مدى بلورة حداثة ترجعنا إلى مهارته في منح الجمال أثرا ً عمليا ً في بنية (النموذج) الخزفي، بوصفه يمتلك قانون الديمومة…، ضمن قراءة لا تعزل حاضرها عن ذاكرتها، ولا عن استبصارها بما سيشكل استكمالا ً للسلسلة. فالأصل لا يكمن في (الفن) ـ مثل اللغة لا تفسر بقواعدها بل بصانعها أيضا ً ـ بل في الذي لم يتخل عن استحداث مناعة مقاومة لحقب الخمول، والوهن.
ومع إن ما بعد الحداثة ـ وقد اندمجت طرقها بعالم تحكمه مراكز الشركات العابرة للقارات ـ غير معنية كثيرا ً بالإجابات التاريخية، أو المنطقية، إلا إنها ـ وقد أصبحت مظهرا ً عالميا ً شمل أكثر المناطق بدائية إلى جانب أكثرها تقدما ً ـ معنية بما كان يصنعه الخزاف الأول: هل غاب اللا مرئي عن أكثر الأشكال صلة بالنفع، وهل غابت (الميتافيزيقا) عن مكونات العالم الافتراضي، رموزه، ومخفياته..؟
فثمة قدر لا محدود ـ بنسب تحددها الرهافات والمهارات والتحديات ـ من المجهول الذي يجد سكنه في أكثر الأشكال تقليدية ـ وأعرافا ً، إلى أكثرها احتواء ً للمشفرات.
ربما ليست هي (الميتافيزيقا) أو (العدم) أو (المجهول) ـ ما دمنا نعمل بأدوات قديمة لمعالجة مستحدثات آخذة بالعبور نحو مصيرها، واعني بها اللغة ـ ولكن هل باستطاعة (الجمالي) أو كل ما تنتجه الرهافة، والمنبهات الحسية، والحدوس، وما ينتجه الدماغ من عوالم افتراضية، أن تشكل (ميتافيزيقا) تتوخى أن تصبح علما ً، لمنح الفن أن يكون حرية بموازاة ضدها: الضرورة…، أم أن الفن كان ضرورة أنتجتها الحرية التي تتطلبها الحضارة خارج المفاهيم القائمة على العسر، والعنف، وهي تحتفل، أحيانا ً، باندثارها؟
إن هذا التشبث (العنيد)، بحد ذاته، يمتلك قدرات لا واعية، للسلسلة أو للدورة، وليس لحلقة أو حقبة أو فجوة فيها…، حيث الفن يذهب ابعد من وصفه بالسلعة، وابعد من مشروعه الوظيفي، وأعمق من انشغالاته الشكلانية أيضا ً…، حيث إن لم يستحدث تعديلات تواكب حضارة اقل عشوائية، عنفا ً، وانشغالا ً أحاديا ً بالربح، فان لغز الزوال سيبقى انشغالا ً، لا يهن، بل يجد منفذا ً له، شبيها ً بما تفضي إليه الثقوب السوداء، لا تتوارى داخل بنيتها إلى الأبد، كما قال ستيفن هوكينج، بل تنبعث في حياة لها ديناميتها، حتى بوجود حياة مغايرة لحياتنا، في مكان أخر من الكون.
[2] النار والخزف
لو أهملنا أثر (النار) في تركيب (الوعي)، قبل 400 ألف عام، في الأقل، أي دخول النار كعامل أساسي في بنية (الدماغ)، فهل كان للأدوات أن تأخذ دورها ببناء مجتمعات تتراكم فيها الخبرات لظهور أولى علاماتها المستحدثة، في نشوء الحضارات…؟ أم علينا إعادة القراءة، والتساؤل: هل هي واحدة من المصادفات التي منحت (وعينا) الشروع بإقامة علاقة حميمية مع النار، بعد علاقته مع: الترب/ الماء/ والهواء…؟
لو لم تكن الطاقة اليوم جزءا ً من مأزق كبير، لأهملنا دور التحدي برمته، في قراءة لغز (النار)…، وموقعها في التقدم، ليس تاريخيا ً أو رمزيا ً، بل حضاريا ً، مادمنا لا نستدل إلا بالأثر الفني، النافع والجمالي معا ً…؟
منذ سنوات ليست قصيرة، استبدل الخزاف العراقي الطاقة (الكهربائية)، بعد غيابها شبه التام، بمصادر بديلة، أي بعد عجز الحكومات المتعاقبة عن توفيرها ـ في بلد يمتلك خزينا ً هائلا ً منها ـ واستعان ببناء أفران شبيهة بالتي صنعها أسلافه في سومر وأكد وبابل…، ومن قبل: في سامراء والعصور الأقدم.
ولأن (النار)، في قصة الخليقة، لم تفكك وتُدرس لترتقي للرد على لغز العصيان، حيث المقارنة جرت بين المصنوع من النار والآخر المنحدر من التراب، الأمر الذي احدث شرخا ً في الإجابة، إن كانت تمردا ً أو عصيانا ً، مما يجعل احد مفاتيح فك الشفرة يكمن في الاختلاف ما بين الأعلى ـ والأسفل…، ما بين الشفاف، والمعتم، وما بين الروحي والواقعي، أم لأمر أكثر تعقيدا ً، مما فسرته النصوص المدوّنة، بتأويلاتها المعروفة…، إن كانت أسطورية، أو رمزية، أم إنها جاءت بحدود ما تمتلك، أي بحدود اللغة كأداة لا تمتلك أكثر من آليات الرد…؟
في الحالات كلها، ومنذ 1990، واجهت الخزاف العراقي أزمة اضطرته للعودة إلى أسلافه، مستعينا ً بمصادر بديلة للحصول على النار.
ولأن فن (الخزف) ـ عبر الحضارات كافة ـ ليس فنا ً نفعيا ً إلا بوصفه حاملا ً لمشفراته الجمالية، فانه سيشكل وثيقة للحياة، بمرئياتها ومخفياتها معا ً. مؤكدا ً انه لغة عابرة لحدوده، بوصفه شبيها ً بالطاقة الكامنة في المادة.
إنما الخزف الفني وثيقة نسجتها التقنيات، إلى جانب الثقافة، كي يغدو مضادا ً للنفع ـ والاستهلاك، أي كي يؤدي دور (الختم)، بإضافات مستمدة من الرهافة، ومن التجارب العملية المضنية. فجمالياته ستحافظ على رصيدها المخبأ الخاص بالجهد ـ والتجريب.
وكي لا تبدو (الحداثة) مستعارة، أو تم السطو عليها، أو إنها ولدت خارج بيئتها العراقية، فان تحديات الخزاف العراقي، باستحداث البدائل، تحفر في الجذور ـ وفي المراجع النائية التي مازالت تجد مأواها في ذاكرة الخزاف.
فإذا كانت النار قد شكلت تحديا ً، فان (الوعي)، هو الآخر، سيدوّن حضوره: ليس لأن عمل النار أساسيا ً في حرفيات الخزاف، بل في عمل (وعيه) ذاته.
لكن جماليات (الخزف)، هنا، وعلى خلاف ما ذهب إليه “هربرت ريد” باستبعاده من الدلالات الرمزية، والروحية، سيحافظ على إعادة سرد قصة الخليقة، بأشكال لا متناهية للصراع. فهنا تظهر أهمية القراءة ومغامرتها الخلاقة: الأشكال/ الألوان/ الملامس/ السطوح/ الرموز …الخ، إلى جانب قراءة: الجسد. قراءة يسهم المتلقي بالذهاب ابعد مما دوّن فوق المجسمات وسطوحها، نحو العمق، في جوهر الخامات، حيث (الخزف) يحافظ على لغز نشأته ـ كالأسباب التي أدت إلى خلق الإنسان نفسه ـ في بلاد الماء/الطين، بدلالة انه لم يتوقف عند المعالجات الأحادية، بل راح يتمثل جوهرها، للمآزق، والتحديات.
وبالعودة إلى عام 1976، حيث تم التباهي بالعصر (الذهبي) للخزف الحديث في العراق، في لندن، باريس، وعواصم أخرى، فان هذا المنجز، اليوم، مع مراعاة عوامل الإحباط ـ حلقة ذهبية في تاريخ غدا متداولا ً، عبر متاحف العالم، للخزف العراقي، عبر أكثر أزمنته استجابة لردم الفجوات، وللحفاظ على (لغة) صاغتها الدوافع ذاتها التي صاغت من النار، علاماته المعرفية، المشفرة، والجمالية.
[3] الجسد: مخبآت ومشفرات
في أكثر العلوم تماسا ً بالحياة اليومية، كالفيزياء والكيمياء، يجد المتلقي العام صعوبات لفهم النصوص النظرية، ومدى تطابقها مع (الحقائق المرئية)، مما يجعلها بعيدة عن التداول، لصعوبتها، في الغالب، أو لجاذبيتها المحدودة أيضا ً.
وفي مجال فن الخزف، تتكرر هذه الصعوبة، عندما يغفل المتلقي انه إزاء الفن الذي واكب اكتشاف (الإنسان) لجسده، ومنحه أولوية تعنى بجدلية العلاقة بين الجسد، والطبيعة، وبين الجسد والمجتمع، وبين الجسد وتحوله إلى قيمة جمالية/ رمزية، تستدعي تحويرات موازية لمجمعته المعرفي، إبان العصور السحيقة، أو في أكثرها حداثة، وعولمة.
فالجسد ليس كتلة ساكنة، تتحرك تلقائيا ً، أو لأسباب موضوعية تستدعي التحليل فحسب، بل انه شبيه باللغة ذاتها التي وجدت للاستعمال، بما تمثله من وسيلة لغاية، هي الأخرى، تستدعي اختراع أدوات قابلة للنمو ـ والتطور ـ والتهذيب، تناسب عمق التأمل، وضروراته. وحتى لو كان اكتشاف الإنسان لجسده، بوصفه ملقى، وليس حصيلة خطة طويلة الأمد، نشأت منذ نكون بذور الخلق، فانه ـ بوصفه ملقى ـ يبقى مثار أسئلة سرعان ما تجد الإجابات الأكثر استدعاء ً لنشوء أسئلة أخرى، مضافة. لقد انشغل الإنسان القديم، بأدواته، ليس بوصفها وسيلة حياة حسب، بل لأنها كانت تتضمن ما هو ابعد من ذلك. فمنذ راح ينسج الأشكال النافعة لحفظ غذاءه، ومنذ صنع أقدم دماه، لأكثر الكائنات عناية بصنع الحياة وديناميتها، اعني بها الأم الكبرى، ولدى الشعوب كافة، فقد اكتسبت دلالات رمزية، بوصفها (مصنعا ً) مولدا ً لأسس الحياة وديناميتها. فالجسد الذي لفت انتباه الأسلاف، في حضارات أعالي الفرات، من ثم في الحضارات التي نشأت بعد الطوفان الأعظم، قبل أكثر من سبعة آلاف عام، منحت (الجسد) مكانة اكتنزت فيها الأسرار، ومشفراتها. وبنظرة عامة لفنون (الحداثة) وما بعدها، فان عملية الحفر في الطبقات السحيقة سيظهر مدى الدور الذي مازال يؤديه الجسد، كعلامة غير مرئية، لتأمل مبدأ: التجدد ـ والابتكار.
على أن الجسد في الفنون ـ الفخار والنحت والرسم ـ لم يولد جسدا ً تاما ً، بل أصبح جسدا ً طالما كانت هناك رؤية جمعية أسهمت بمنحه مكانته في البناء المجتمعي، وضمنا ً، لم يكن الانشغال الجمالي/الفني، بمهامه التنقيبية، يجري بمعزل عن التحولات، من البسيط إلى المركب، ومن المركب إلى اختزاله، وإعادة تركيبه بحسب الإضافات والمحو.
ففي تجارب هذا المعرض [خزافون عراقيون] لأكثر من ستين خزافا ً، تتم الاستعانة بالجسد موضوعا ً يتكون بحسب مهارات الخزاف، ورؤيته الفلسفية. فهو لم يعد إلا موضوعا ً ديناميا ً تضمن نقدا ً لاذعا ً لما عاناه (الجسد) من انتهاكات، طوال السنوات التي أعقبت الحرب (2003) والانتهاكات السابقة، منذ العام (1958).
فثمة مستويات لهذه الرؤية صاغ الخزاف منها هوية عامة ـ لا شعورية ـ جمعت اهتماماته، كي يعيد صياغتها، بأسلوبه، ومدى استجابته لقانون الحياة بوصفها سلاسل من التحديات المتواصلة تسمح له بصياغة حضوره في مواجهة الهدم ـ والدفن.
ثمة أجساد خزفية، بالأحرى: ثمة رهافة خزفية في رؤية الجسد، لأنها علاقة جدلية بينهما ولا أسبقية لأحدهما على الأخرى؛ الجسد في الطبيعة، أو الجسد وقد استحال فنا ً خزفيا ً، لأنها شبيهة بالعلاقة بين الدماغ والوعي، كلاهما يعتنيان به، كما في تجارب: أمير حنون/ عبد الأمير طاهر/ علي السعدي/ قاسم محمد/ على قاسم حمزة/ أطياف علي …الخ، وثمة تحويرات أجرها الخزاف، لكن بتفكيك الجسد، واختزاله، بوصفه علامة دينامية اتخذت من المعالجة الخزفية الجمالية أولوية له. كخزفيات: احمد جعفر/ نبيل مع الله/ سامر احمد/ ابتسام ناجي/ سيف نفل/ عدنان الصافي/ زينب ألركابي/ حيدر صباح/ زينب البياتي/ احمد عبد الرزاق/ رائد احمد/ حيدر مجهول …الخ، فيما هناك تجارب حافظت على المنحى الاختزالي للجسد، حد التجريد، بالتشذيب، او بالتحوير، لم تلغ الإرث الغاطس للموروث الخزفي العراقي القديم، وللحضارات كافة، كما في تجارب: شنيار عبد الله/ رجاء عباس/ سلام احمد/ خالد جبار/ سعد الجابري/ قاسم نايف/ حسن عبد الأمير/ تراث أمين/ يحيى رشيد/ وجدان الماجد/ حيدر رؤوف/ أكرم ناجي …الخ
إن هذه التنويعات، في رؤية الجسد، بوصفه أقدم علاقة مشفرة مولدة لرموز الحياة ـ شبيهة بالمصنع تضافرت فيه عناصر الإنتاج ضمن خطة عامة قائمة على علاقات سببية نائية وغير منظورة ـ منحت فن الخزف لغة تعبيرية ـ جمالية، تباينت بين الذاتي، والجمعي، في رصد الحياة اليومية التي عاشها الخزاف، ووثقها بتقنيات تداخلت فيها التنصيصات، الاستعارات، الدمج والتحوير حد المنحى التجريدي، لتشكيل أسفار تضمنت زوايا بصرية، وأخرى رقمية، وثالثة اكتفت بالأشكال المألوفة، بغية تحقيق التوازن، بين الروافد والأسس التي اعتمدها الخزاف بمنح البعد الجمالي دافعا ً خاصا ً بعمل الجسد ـ التاريخي، بدل محاكاته أو إهماله. فالمشترك حث ذاكرة الخزاف لصياغات سمحت لأصابعه أن تمنح المخيال مدى مناسبا ً مجاورا ً للبصريات الواقعية التي عاشها الخزاف، بعنفها، وبصدماتها، والارتقاء بها ـ كما فعل الأسلاف والرواد في مواجهة التحديات ـ نحو معالجات تعيد للحياة المجتمعية، ذائقة تمنح الخزف (حداثته) في الخطاب (المعرفي) للمجتمع، بعيدا ً عن العزلة التي يعاني منها الفنان عامة، والخزاف على نحو خاص. فبهذا المنجز، في هذا السياق، يتوخى فضاء المدينة، ليس لأنه نشأ فيها، بل لأنه يسعى لمنح الفن موقعه المتقدم، بإرساء حياة لم تخلق فائضة، أو للدفن.
[4] الحرف ليس سطحا ً
حتى النصوص الخزفية التي تبدو قائمة على إخفاء مضامينها، أو محركاتها الفكرية، بل وحتى التي تتخلى عنها أو تنبذها، لا تستطيع، مقارنة بالفنون الأخرى، أن تتبنى الحياد، أو المعالجة الأحادية للأشكال، وعناصرها. فكما تمت، تحويرات الجسد/ البدن، بوصفه علامة مركبة، توليدية، وصياغته بأبعاد ذات صلة بالمعمار والمدينة، بالأنساق المجتمعية، والنفسية، بالتأويل وبالدوافع الرمزية…الخ، فان منحى ظهور الحرف ـ في الخزف ـ التحم بالجسد ذاته، وفي الوقت نفسه، غدا علامة مركبة لمسار فني طويل.
إن لا شعور الخزاف يفصح عن مبدأ أن خياله الأبعد لا يستنسخ موروثاته، بل ينتقي منها ما سيشكل حاضرا ً لتطبيقاته الفنية.
فإذا كان الجسد ذاته أقدم مفهوم لجدلية عمل الوعي على صعيد التطبيقات النافعة، فانه غدا أداة مولدة لإضافات تمنحه مدى ابعد في الدلالات، وما تتضمنه من إيحاءات، فنية/ جمالية، فان (الحرف) ـ بوصفه جزءا ً من بنية صورية ـ شكلية ـ رمزية، سيقترن حضوره في المنجزات ذات الصلة بالوسط الاجتماعي ـ والمعرفي. فإذا كانت الكتابة قد نشأت مصاحبة لبرنامجها التطوري، فإنها ستحافظ على ديناميتها، حتى بتجدد أشكالها.
ولعل النصوص المبكرة للأواني، الجرار، والدمى الفخارية، فضلا ً عن المجسمات والأعمال اليدوية المصاحبة لحياته اليومية، لم تستغن عن استلهام منظومة الكتابة ـ بوصفها حاملة للمعاني ولجمالياتها المستحدثة ـ بل أكدتها، عبر مختلف العصور، ومنها الأزمنة التي غابت عنها مصادر الإشعاع ـ التوليد، والابتكار.
فالنص الخزفي القديم، سيغدو مجالا ً لتنفيذ الأفكار، عبر المعالجات الفنية، لأنه سيمنح النفع قناعا ً لا يمكن عزله عن هذا السياق، ولكن الجمالي، أو الجمالي في ذاته، لا يحقق رسالته، عبر القطيعة، بل عبر التحويرات والاختزالات التي تسمح لمفهوم الإنتاج أن يذهب ابعد من السياق الميكانيكي، نحو الرموز، والإيحاءات، المولدة للمعاني الأكثر تقدما ً، بل والأكثر صلة بالحداثة.
في هذا المجال، ظهر استخدام الحرف باستعادة الخزين، واستثمار مكانة المعرفة في التداول، فضلا ً عن الاختزال الذي سيمنح الخزف هويته، ليس بفعل العلامات، والمعالجات، بل بسبب الانصهار ـ والبنية الجدلية لوحدة عناصر النص الخزفي.
ففي نصوص: ماهر السامرائي/ هاشم رسمي/ خالد جبار/ سعد العاني/ قاسم حمزة/ ساجدة ألمشايخي/ رعد الدليمي …الخ، مستويات متنوعة تمنح (الخزف) مكانته كأثر يستحدث حضوره، وليس بوصفه إشارة لعلامات مندرسة.
فإذا كان بيكاسو وبراك قد ادخلا الحرف (ألطباعي) ضمن سياق التوجه التركيبي ـ التلصيقي/ الكولاج، للدلالة على معالجات مستمدة من الظواهر الصناعية الأوربية، لتوثيقها، فنيا ً، فان تقاليد فن الخزف العراقي، والعربي عامة، وجدت في الكتابة ـ وحروفها ـ مسلمة بيئية وثقافية وشعبية وروحية لبنية الفن، وما يتضمنه من غايات عابرة للاستخدامات، نحو النص المستقل، بما يتضمنه من دلالات معرفية ـ وجمالية.